الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: {ومن يولهم يومئذ دبره} يعني ومن ينهزم ويول دبره يوم الحرب والقتال {إلا متحرفًا لقتال} يعني إلا منقطعًا إلى القتال يرى عدوه من نفسه الانهزام وقصده طلب الكرة على العدو والعود إليه وهذا هو أحد أبواب الحرب وخدعها ومكايدها.وقوله تعالى: {أو متحيزًا إلى فئة} يعني أو منضمًا وصائرًا إلى جماعة من المؤمنين يريدون العود إلى القتال {فقد باء بغضب من الله} يعني من انهزم من المسلمين وقت الحرب إلا في هاتين الحالتين وهي التحرف للقتال والتحيز إلى فئة من المسلمين فقد رجع بغضب من الله: {ومأواه جهنم وبئس المصير}.فصل في حكم هذه الآية: اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ولم تكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ولأنها أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه والمسلمون معه فشدد الله عليهم أمر الانهزام وحرمه عليهم يوم بدر فأما بعد ذلك اليوم فإن المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزًا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك قال يزيد بن أبي حبيب: أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر فلما كان يوم أحد قال الله تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} ثم كان يوم حنين بعده فقال سبحانه وتعالى: {ثم وليتم مدبرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال: لا بل أنتم الكرارون إنا فئة المسلمين.قوله فحاص الناس حيصة، يعني جال الناس جولة يطلبون الفرار من العدو.والمحيص: الهرب.وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر بن الخطاب، فقال: لو انحاز إليّ كنت له فئة أنا فئة كل مسلم.وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ظهره منهزمًا بدليل قوله: {يا أيها الذين آمنوا} وهذا خطاب عام فيتناول جميع الصور وإن كانت الآية نزلت في غزاة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وجاء في الحديث: «من الكبائر الفرار من الزحف» وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقال تعالى: {الآن خفف الله عنكم} فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت بذلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا منهم ويولوهم ظهورهم وإن كان العدو أكثر من المثلين جاز لهم أن يفروا منهم قال ابن عباس من فرّ من ثلاثة لم يفر ومن فرّ من اثنين فقد فرّ. اهـ..قال أبو حيان: {ومن يولهم يؤمئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة باء بغضب من الله ومأواه جهنم}لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله: {ومن يولهم} {فقد باء بغضب} كان المعنى فقد ولّى مصحوبًا بغضب الله وعدل أيضًا عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدًّا ألا ترى إلى قول الشاعر:قال في التحرير: وهذا النوع من علم البيان يُسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكنانة وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد {إذ} وعوض منها التنوين هي قوله: {إذ لقيتم الكفار} فقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم ويوم حنين {ثم وليتم مدبرين} ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى، وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهر إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصًا به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال.قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله: {إذا لقيتم} وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه الله في آية أخرى وليس في الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو الله عن مَن فرّ يوم أحد كان عفوًا عن كثرة انتهى.وقرأ الحسن {دبره} بسكون الباء وانتصب {متحرفًا} {ومتحيزًا} عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على {من}.قال الزمخشري: وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن {يولهم} إلا رجلًا منهم {متحرفًا} أو {متحيزًا} انتهى، وقال ابن عطية: وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو {يولهم} وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير: {ومن يولهم} ملتبسًا بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه يكون استثناء مفرغًا والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيدًا وقمت إلا ضاحكًا لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفًا أو تحيّزًا والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليه بالشر، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار أي لكونه يرى أنه يُنكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلى فيها واقتضى أيضًا أن تكون هذه الفئة من المسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفًا وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسر الزمخشري قال: {إلى فئة} جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا، وروي هذا عن عمر: انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه عنه: أنا فئتك.وعن ابن عمر رضي الله عنه: خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون.فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم.قال ثعلب العكارون العطّافون، وقال غيره: يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعًا عكر واعتكر.وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا السبع الموبقات» وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى.وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه: وقال الحرث من أبيات: واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم.قال: وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله: {يا أيها الذين آمنوا} انتهى، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهم ومَنن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف. اهـ. .قال أبو السعود: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم اللقاء {دُبُرَهُ} فضلًا عن الفرار، وقرئ بسكون الباء {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ} إما بالتوجه إلى قتال طائفةٍ أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفرّ للكرّ بأن يُخيِّل لعدوّه أنه منهزمٌ ليغُرَّه ويُخرِجَه من بين أعوانه ثم يعطِفَ عليه وحدَه أو مع مَنْ في الكمين من أصحابه وهو باب من خِدعِ الحربِ ومكايدِها {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} أي منحازًا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضمّ إليهم ثم يقاتلَ معهم العدو.عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: إن سريةً فرّوا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيَوْا ودخلوا البيوتَ فقلت: يا رسولَ الله نحن الفرارون فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم العكّارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتُكم»، وانهزم رجلٌ من القادسية فأتى المدينةَ إلى عمرَ رضي الله عنه فقال: يا أميرَ المؤمنين هلكتُ ففرَرْتُ من الزحف فقال رضي الله عنه: أنا فئتُك، ووزنُ متحيِّز متفيعل لا متفعّل وإلا لكان متحوزًا لأنه من حاز يحوز وانتصابُهما إما على الحالية وإلا لغوٌ لا عمَلَ لها وإما على الاستثناء من المُولّين أي ومن يولهم دبرَه إلا رجلًا منهم متحرفًا أو متحيزًا {فَقَدْ بَاء} أي رجع {بِغَضَبٍ} عظيم لا يقادر قدرُه و(من) في قوله تعالى: {مِنَ الله} متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لغضب مؤكدةٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة والهولِ بالفخامة الإضافية أي بغضب كائنٍ منه تعالى: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي بدلَ ما أراد بفراره أن يأويَ إليه من مأوى ينجيه من القتل {وَبِئْسَ المصير} في إيقاع البَوْءِ في موقع جوابِ الشرطِ الذي هو التوليةُ مقرونًا بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيدَ عليه.عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفرارَ من الزحف من أكبر الكبائرِ وهذا إذا لم يكن العدوُّ أكثرَ من الضِّعف لقوله تعالى: {الئن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية، وقيل: الآية مخصوصةٌ بأهل بيتهِ والحاضرين معه في الحرب. اهـ..قال الألوسي: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}{وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم اللقاء ووقته {دُبُرَهُ} فضلًا عن الفرار.وقرأ الحسن بسكون الباء {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ} أي تاركًا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجهًا إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردًا يريد الكر كما روى عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه.ومن كلامهم:وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء: «الحرب خدعة» وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبًا فيها رزقه {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} أي منحازًا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضمًا إليهم وملحقًا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي.ويؤيده ما أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وحسنه والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عليه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها.
|